Sunday, August 19, 2012

أستاذ متفرغ

الرجال أربعة : رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فاتبعوه ،ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك غافل فنبهوه ، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك مائق فاحذروه
الخليل بن أحمد الفراهيدى



<ترررررررررررررررررن>
<طراخ !>
“لعنة الله على المنبهات و على من ابتكرها!”
هكذا فكّر بذهن لا يزال متعكرا من أثر النوم ، و بعد أن أسقط المنبه كعادته، بماذا كان يحلم و هو نائم؟ لا أدرى ! و هو لا يتذكر ! هو حتى لا يتذكر متى كانت اخر مرة يحلم فيها، سواء فى النوم أو اليقظة !

اعتدل، قام ، سار بروتينية الى الحمّام، فكّر .. أيحلق ذقنه ؟ و لم ؟ يطلقها ؟ و لم ؟ إنما نشاطه اليومى ينحسر فى مقابلة الطلّاب .. لم يعد هناك ما يدعوه للمحافظة على مظهره، فى الواقع لم تعد حياته تحوى ما يحفزه لأى عمل !
انتهى من نشاطاته الصباحية المعتادة، سار متثاقلا الى هاتفه المحمول ، و الذى لا يدرك امكانياته بالضبط، و لم يهتم يوما بمعرفتها، طلب الرقم المعتاد … رقم رئيسه فى العمل …

الاخر: "صباح الخير يا أستاذى .." رد بها الطرف الاخر بادئا سلسلة الروتينيات المعتادة لبروتوكولات المحادثة التليفونية.
هو : "صباح الخير" .. متثاقلا قالها، متكبرا عناها
هو -مستكملا-: "نفس الميعاد ؟ احنا فى أيام الشفوى"
الاخر: "باذن الله يا أستاذى... 8 بالضبط و أفوت عليك بالعربية نروح مع بعض .. بالمناسبة ، الولاد فى اتحاد الطلاب كلّمونى و عايزين يعملو حوار مع أحد الأساتذة المؤسسين للكلية علشان مجلة الاتحاد الجديدة ، و طبعا ما قدرتش اقول اسم غير اسم حضرتك .. و الموضوع مش مستعجل ، ده هايكون على بداية الترم اللى جاى"
هو: "قدامنا ترم كامل نفكر فيه … عن نفسى مش باحب لعب العيال ، بس طالما من ناحيتك يبقى مافيش مانع .. ما تتأخرش بقى"

أنهى المكالمة، ارتدى ثيابه عابثا، تأمل وجهه فى المرآه، كاد سنّه أن يجاوز السبعين شتاء … فكّر قليلا .. سبعين عاما ! ما يربو على نصف قرن بما يقارب الربع قرن !

فكّر قليلا فيما ورد فى المكالمة .. أحد الأساتذة المؤسسين ، كلمة رنّانة .. دفعته إلى تذكّر بداياته المهنية و الأكاديمية ..
تذّكر عندما كان طالبا فى المعهد، متفوقا على أقرانه من طلبة المعهد، كانت له فى الماضى ذاكرة فولاذية أعانته على المناهج المعهدية من نصوص الكهرباء، و أدب النجارة و نحو الماكينات !
ساعده هذا التفوق على تعيينه فى المعهد فى بداية الستينيات ، ثم سفره الى المملكة المتحدة فى عام يقترب من حرب أكتوبر. يتذكر صدمته من اكتشافه أنه لا يفقه شيئا أمام زملاءه، جاهدا حاول أن يواكبهم ، متعثرا حاول أن يقاربهم فكريا، على أنه  بالرغم من ذلك نجح أمام لجنة مناقشة الدكتوراه، و لم يفهم بالضبط أيّامها إشارة مشرفه أنه بالرغم من أنه دون المستوى الأكاديمى الا أنه سيحصل على الشهادة و يعود ناشرا للعلم فى وطنه و عليه فقد استنّ سنة هذه اللجنة فيما بعد فى جامعته ، حتى و ان كان طالب الدكتوراه فاشلا، فهذا لا يبرر تضييع مجهوده، لعله يصبح عظيما فيما بعد مثله ! لكم يبدو العام 1978 قريبا كما لو كان بالأمس !

"هو ليه اتأخّر ؟ " عبرت الفكرة ذهنه الأشيب ثم لم يلبث أن عاد لطوفان الذكريات …
يتذكر عودته أستاذا يحمل الدكتوراه إلى جامعة غادرها معيدا و هى معهد. كيف كانت مشاعره عندما علم أن الطلبة الأوغاد الذين لا يمتلكون موهبة سيخرجون حاملى بكالوريوس الهندسة، كيف أن القدر عاملهم بالحسنى، و جعلهم طلبة كلية لا طلبة معهد مثلما كان فى عمرهم فى مجتمع يخر ساجدا للشهادات و الورق الحكومى الموثق !

"النغمة التقليدية لموبايل نوكيا" … لقد وصل
نزل من بيته متمهلا، ألقى التحية الصباحية عابسا، سأل عن حال رئيسه، لم يهتم بالاجابة ، فى الواقع لم يهتم أصلا بالسؤال !ثم شرد فى خواطره من جديد …قال لنفسه ...

"أسئلة و اجابات، و المزيد من الأسئلة ثم المزيد من الاجابات … هذا هو عالمى ، يسألنى الطالب سؤالا فأجيب أو أصحح له اجابته -الخاطئة دوما- او أسأل الطالب سؤالا فيجيب أو لا يجيب … لم يعد يهم ! ، و لكن صبرا ! لم يعد طلاب هذا الزمان مطيعين و مجتهدين مثل أقرانهم منذ عشرين عاما ! لا أعلم سببا لذلك التدهور فى المستوى التعليمى، لن أنس ما حدث بالأمس … حاولت أن أنبه أحد الطلبة و هو ابن دكتور زميل، أن مستواه انخفض فى الكلية، فردّ علىّ بكل جرأة بأنه يذاكر أشياء أخرى (لبرّا الكليّة)، بصراحة لم أستوعب بالضبط ما هو (جوّا الكلية) و ما هو (برّا الكلية)، المذاكرة واحدة تبدأ بالمحاضرة و تنتهى بالامتحان ! عموما ، تجاوزت عن وقاحته و جهله مكتفيا بلفت نظره أنه اذا أراد "أن يتفلحس" فليصبر حتى ينتهى من دراسته الجامعية ! عموما.. حالته ليست فردية لقد تكررت الحالة أكثر من مرّة منذ ظهور تلك الأسرة الغريبة و التى تدّعى مساعدة الطلاب فى النواحى التقنية، هل للأسر أنشطة أخرى غير الرحلات و الحفلات !! لشدّ ما ازداد العالم قبحا ! عموما … هم مجرّد أطفال عابثون لا يعلمون مصلحتهم … خليهم يتسلو ! "

"أستاذى" … قطع رئيسه أفكاره...
"احنا اتكلمنا قبل كده عن السنتر بتاعك .. ده شىء مش كويس لسمعة القسم، خصوصا ان الدكتورة زوجتك هى اللى بتحط الامتحان فى نفس المواد اللى السنتر بيدرّسها" …  قالها رئيسه بهدوء حذر
"نبقى نشوف الموضوع ده" … ردّ باقتضاب ..
صمت، شرد، فكر...

"و ماله أن أمتلك مركزا للتدريب المهنى أيها الحاقد! انها أكثر التجارات ربحا فى هذا الزمن، و ما الفارق بين مركزى للتدريب و مركزالتدريب الجامعى الذى كنت أحد مؤسسيه و الذى يقع ملاصقا لكليتنا فى قلب الجامعة ؟! و حصل ايه يعنى أن يقوم ابنى بالتدريس، و ما الفارق الرهيب بين كورسات لغات البرمجة و الدرس الخصوصى ؟! كل الطرق تؤدى الى روما ! أمركم عجيب !!"
وصلت السيارة الى مثواها غير الأخير أمام المبنى المتهالك، و الذى يحاول العميد اعادته للحياة بتجديد واجهة المبنى الإدارى ، بما يشبه ما تفعله العجوز المتصابية للحفاظ على ما تعتقده جمال !

ترجلّا ، فتحا باب المبنى الصغير -و المغلق أمام الطلبة فى المعتاد- صعدا السلم، من بعيد لاح له عدوه، القديم ، و الذى يحمل مثله اللقب الفارغ من المحتوى … أستاذ متفرغ … واقفا يدخن السيجارة كعادته بين المحاضرة و مثيلتها ، متظاهرا بالعمق و المعرفة، لكم شهد القسم من صراعات بينهما فى محاولات بدائية متبادلة لاثبات السلطة و رفعة المنزلة، دائما ما ينظر غريمه لزملائه من" المتفرغين" أنهم أقل منه مكانة حيث أنه خرّيج الجامعة الوحيد بينهم لا معهد سابق مثلهم.

لم تمض إلّا دقائق من وداعه لرئيسه ثم طلبه لفنجان من القهوة، حتى ظهر له بالباب أحد الطلبة، هو يعرف ذاك الطالب، و يعتبره نموذجا للطالب المجتهد، مطيع، حريص على إبداء الأدب اللازم فى حضرة أساتذته، كما انه يعمل جاسوسا على حال دفعته ! تساءل الطالب عن الشيت، أجابه بلا اكتراث حقيقى، هو لا يقوم بتصحيح الشيت أو غيره أصلا! هل يفترض بمن كان فى مكانته أن يتدنى الى دركة هذه الأمور ؟! إنما هى من أعمال المعيد ، الحمار كما يطلق عليه سرا و جهرا، أمام الاساتذة و أمام الطلبة … سيان !

سأله الطالب عن معلومة ذكرها فى المحاضرة، هو لا يتذكر بالضبط ما قاله، "هل هو السن ؟" .. تساءل فى سره.. ثم نفى ! عموما ، الطالب نبيه بالتأكيد و هو -أى الطالب- غالبا ما يتساءل لمجرد لفت انتباه أستاذه، لشد ما يختلف معظم الطلبة عنه من وجهة نظره! بالأمس قام طالب من مكانه، و غادر القاعة عاصفا بعد أن رنّ هاتفه - هاتف الطالب - المحمول، و بعد أن تساءل هو: "مين أبو ش** اللى موبايله رن ؟!" ، كم كانت قاعة المحاضرة مقدسة بالنسبة له و هو طالب فى المعهد، لم يكن يجرؤ على مغادرتها مثلما فعل الطالب الوقح -كما يراه-!!
قبلها بأسبوعين أو ما زاد قليلا طلب من طالب اخر أن يقوم بحل مسألة برمجية على السبورة، فوقف كالأبله، و قال انه لا يستطيع حلها ، فسأله أمام الدفعة بكل بساطة و تلقائية .. "حاطط بادج على ط***  و مش عارف تحل المسألة ؟؟!"
و ما زال يتعجب كيف طلب منه رئيسه بكل خجل أن يتجنب مثل هذه الألفاظ … حيث أنها لا تجوز لمن كان فى سنه و مكانته !


"الساعة تجاوزت الثامنة و خمس و أربعين دقيقة" فكرّ بعد أن نظر الى ساعة الحائط ...إنه وقت الامتحان الشفهى، انتهى من رشف ما اقترب من ثمالة القهوة،أجاب عن سؤال الطالب بكلمات مقتضبة،  قام، التقط كشف الأسماء، تجاهل عدوهّ الجالس على المكتب المقابل، و اتجه بتؤدة الى المدرج المعتاد،
تجاهل النظرات المتوجسة من الطلبة ..
فكّر … "صبرا يا طلّابى الأعزاء … لقد علمت أن دفعتكم تلك هى التى أثارت الزوابع بعد سؤالى عن تصميم الراقصة فى امتحان الترم المنصرم … ستكون نتائج هذا الترم مبهجة للغاية … بالنسبى لى طبعا !"

ثم أعلن بدأ الامتحان .
تمّت

3 comments:

  1. بسم الله

    لاغبار على ان ما ذكرت في موضوعك هو حقيقة .. ودامغة لاريب اذ ان ذاك قد حطم كثير من المعاني ان لم يكن جملتها مما كنت اود ان احصل من تلك المؤسسة التعليمية.

    وددت لو أن طرحك (ولو في ما يلي) يتضمن علاج من وجهة نظرك لتلك المشكلة، فأظنك تعلم انها متفشية كما الطاعون المنتشر في بقايا الدولة المنصرمة!

    تقبل تحياتي

    ReplyDelete
  2. يا أخى امام ... المرض فى حالة متقدمة قد لا يعالج، و السرطان يقطع بالبمبضع و يحرق بالاشعاع !
    و التعليم فى مصر من احقر دار حضانة الى افضل جامعة ما هو الا ورم سرطانى فى جسم شيخ هرم يلفظ انفاسه الاخيره الا انه لا يود ان يموت صامتا، و انما يحيل حياة المحيطين به الى جحيم ارضى !
    تحياتى

    ReplyDelete